فإن أمة الإسلام أمة صفاء ونقاء في العقيدة والعبادات والمعاملات وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يوغر الصدور ويبعث على الفرقة والشحناء، فقال صلى الله عليه وسلم: « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»[رواه مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: حاثًا على المحبة والألفة: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا...» [رواه مسلم] وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد» [رواه ابن ماجه] وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها: }وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ{ [الحجر: 47] وسلامة الصدر راحة في الدنيا وغنيمة في الآخرة وهي من أسباب دخول الجنة،قال ابن حزم وكأنه يطل على واقع كثير من المتحاسدين والمتباغضين، أصحاب القلوب المريضة:
«رأيت أكثر الناس -إلا من عصم الله وقليل ما هم- يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً، من نيات خبيثة يضبون عليها من تمنى الغلاء المهلك للناس وللصغار، ومن لا ذنب له، وتمنى أشد البلاء لمن يكرهونه، وقد علموا يقينًا أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئًا مما يتمنونه أو يوجب كونه وأنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم، ولاقتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئًا مما يريدونه أو يمنع كونه، فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عليها؟ وأي سعد أعظم من الحال التي دعونا إليه».
وكثير من الناس اليوم يتورع عن أكل الحرام أو النظر الحرام ويترك قلبه يرتع في مهاوي الحقد والحسد والغل والضغينة، عن فتح به شخرف قال: قال لي عبد الله الأنطالي: «يا خراساني، إنما هي أربع لا غير: عينك ولسانك وقلبك وهواك،فانظر عينك لا تنظر بها إلى ما لا يحل، وانظر قلبك لا يكون منه غل ولا حقد على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا يهوى شيئًا من الشر فإذا لم يكن فيك هذه الخصال الأربع فاجعل الرماد على رأسك فقد شقيت».
وبعض الناس يظن أن سلامة القلب تكمن في سهولة غشه وخداعه، والضحك عليه وهذا خلاف المقصود.
قال ابن القيم -رحمه الله- : الفرق بين سلامة الصدر والبله والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعمل به،وهذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه، والكمال أن يكون عارفًا بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لست بخب ولا يخدعني الخب» وكان عمر أعقل من أن يخدع وأورع من أن يخدع.
وسلامة الصدر من أسباب دخول الجنة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال: نعم قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله -عز وجل- وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات يطلع عليك الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أراك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق»[رواه الإمام أحمد].
من أسباب التشاحن والتباغض1- طاعة الشيطان: قال تعالى : }وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا{ [الإسراء: 53]وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم»[رواه مسلم].
2- الغضب: فالغضب مفتاح كل شر وقد أوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً بالبعد عن الغضب فقال: «لا تغضب » فرددها مرارًا [رواه البخاري] فإن الغضب طريق إلى التهكم بالناس والسخرية منهم وبخس حقوقهم وإيذائهم وغير ذلك مما يولد البغضاء والفرقة.
3- النميمة: وهي من أسباب الشحناء وطريق إلى القطيعة والتنافر ووسيلة إلى الوشاية بين الناس وإفساد قلوبهم قال -تعالى- ذامًا أهل هذه الخصلة الذميمة: }هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ{[القلم: 11] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة فتان» وهو النمام.
4- الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها وفيه تعد وأذى للمسلمين نهى الله عنه ورسوله قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»[رواه أبو داود] والحسد يولد الغيبة والنميمة والبهتان على المسلمين والظلم والكبر.
5- التنافس على الدنيا: خاصة في هذا الزمن حيث كثر هذا الأمر واسودت القلوب، فهذا يحقد على زميله؛ لأنه نال راتبة أعلى، وتلك تغار من أختها لأنها حصلت على ترقية وظيفية، والأمر دون ذلك فكل ذلك إلى زوال.
وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
6- حب الشهرة والرياسة: وهي داء عضال ومرض خطير، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: «ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغي وتتبع عيوب الناس،وكره أن يذكر أحد بخير» وهذا مشاهد في أوساط الموظفين والعاملين.
7- كثرة المزح: فإن كثيره يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، والمزاح كالملح قليله يكفي وإن كثر أفسد وأهلك، وهناك أسباب أخرى غير هذه.
والمسلم مطالب بتزكية نفسه والبعد عن الغل والحقد والحسد، ومما يعين على سلامة الصدر:أولاً: الإخلاص
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلات لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» [رواه أحمد وابن ماجه].
ومن المعلوم أن من أخلص دينه لله -عز وجل- فلن يحمل في نفسه تجاه إخوانه المسلمين إلا المحبة الصادقة، وعندها سيفرح إذا أصابتهم حسنة، وسيحزن إذا أصابتهم مصيبة، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو الآخرة.
ثانيًا: رضا العبد عن ربه وامتلاء قلبه به:
قال ابن القيم -رحمه الله- في الرضا: إنه يفتح للعبد باب السلامة فيجعل قلبه نقيًّا من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا، وكلما كان العبد أشد رضا كان قلبه أسلم، فالخبث والدغل والغش: قرين السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضا وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه ومن ثمرات الرضا.
ثالثًا: قراءة للقرآن وتدبره:
فهو دواء لكل داء، والمحرم من لم يتداو بكتاب الله، قال تعالى: }قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ{ [فصلت: 44] وقال: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا{ [الإسراء: 82]، قال ابن القيم -رحمه الله-: والصحيح أن (من) ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ{[يونس: 57]ٍٍٍ، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة.
رابعًا: تذكر الحساب والعقاب:
الذي ينال من يؤذي المسلمين من جراء خبث نفسه وسوء طويته من الحقد ولحسد والغيبة والنميمة والاستهزاء وغيرها.
خامسًا: الدعاء:
فيدعو العبد ربه دائمًا أن يجعل قلبه سليمًا على إخوانه، وأن يدعو لهم أيضًا: لهذا دأب الصالحين قال تعالى: }وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{ [الحشر: 10].
سادسًا: الصدقة:
فهي تطهر القلب، وتزكي النفس، ولذلك قال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا{[التوبة: 103].
وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «داووا مرضاكم بالصدقة» [صحيح الجامع] وأن أحق المرضى بالمداوة مرضى القلوب، وأحق القلوب بذلك قلبك الذي بين جنبيك.
سابعًا: تذكر أن من تنفث عليه سمومك وتناله بسهامك هو أخ مسلم ليس يهوديًا ولا نصرانيًا، بل يجمعك به رابطة الإسلام، فلم توجه الأذى نحوه.
ثامنًا: إفشاء السلام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» [رواه الإمام مسلم].
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: «في هذا دليل على فضل السلام لما فيه من رفع التباغض وتوريث الود».
تاسعًا: ترك كثرة السؤال وتتبع أحوال الناس، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [رواه الترمذي].
عاشرًا: محبة الخير للمسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [رواه البخاري ومسلم].
الحادي عشر: عدم الاستماع للغيبة والنميمة حتى يبقى قلب الإنسان سليمًا: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سلم الصدر» [رواه أحمد] والكثير اليوم يلقي بكلمة أو كلمتين توغر الصدر خاصة في مجتمع النساء وفي أوساط البيوت من الزوجات أو غيرهن.
الثاني عشر: إصلاح القلب ومداومة علاجه قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» [رواه البخاري ومسلم].
الثالث عشر: السعي في إصلاح ذات البين قال تعالى: }فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ{ [الأنفال: 8] قال ابن عباس رضي الله عنه : «هذا تحريم من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم».
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين» [رواه أبو داود].
جعل الله قلوبنا سليمة لا تحمل حقدًا ولا غلاً على المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مما قرأت